بقلم: الشيخ محمد الفحام
كُتبت منذ شهر
بلوغُ المأمول بمولدِ الحبيبِ الرسولِ ﷺ
يقولُ اللهُ تعالى في مُحْكَمِ البيانِ العظيم: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ)
يا مُحِبَّ الحبيبِ! في ربيعِ النُّورِ تَنْتَشِرُ أنوارُ غَمْرَةُ الحُبِّ الخالِصِ لِلْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ تلك التي لَمَّا تَمَكَّنَتْ مِنَ القلبِ حَفِظَتْهُ مِنْ فَسادِ العقيدةِ ذلك أنَّ حُبَّهُﷺ صُمَّامُ أمانٍ
بِنَصٍ قولِه في صحيحِ مسلمٍ وغَيرِه: «لا يؤمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أكونَ أَحَبَّ إليه مِنْ وَلَدِهِ ووالِدِهِ والنَّاسِ أجمعين» إشارةً إلى أَنَّ صِلَةَ الحُبِّ بهذا المحبوبِ إنَّما هي صِلَةُ عافِيَةٍ لِلْقَلْبِ والقالَب، لذا ما ذاقَ أَحَدٌ طَعْمَ حُبِّهِ إلَّا وعَظُمَ مِنَ اللهِ قُرْبُهُ، فهوﷺ مَنْ تَفَرَّدَ في جَعْلِ حُبِّهِ بَريداً لِحُبِّ اللهِ تعالى والوصولِ إليه، ومَدْخَلاً لِلتَّعَرُّفِ عليه سبحانه. سِرُّ ذلكَ أنَّ الحُبَّ الكامِلَ وِعاءُ دوامِ الاتِّباعِ، لذا كانَ مِنْ جُمْلَةِ الشواهِدِ على هذه الحقيقةِ انْتِشارُ الضِّياءِ في أرجاءِ كُلِّ مَجْلِسٍ يُذْكَرُ فيه السيدُ الأعظمُ بِسيرتِهِ وشمائلِه والصلاةِ والسلامِ عليهﷺ.
هذا؛ وقد أدركَ ذلك المعنى كلُّ مُحِبٍّ مُتَجَرِّدٍ فِكْرُهُ منير، وهَواهُ غَيرُ عقيم، وقلبه سليم أنَّهُ عَطاءُ الجليلِ لِشِفاءِ كُلِّ عَليل.
وعليه؛ فَمِنَ الْمَعْلومِ بَداهَةً أنَّ مَنْ أَحَبَّ شيئاً أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، ومَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ شَيءٍ سَرى فيه حالُهُ وتَطَبَّعَ بأحواله، وهذا ما ظَهَرَ على مُحَيَّا الْمُحِبِّينَ لِلنبيِّ عليه الصلاة والسلام مِنَ الأنوارِ والأسرارِ.
مِنْ أَجْلِ ذلكَ شَهِدَ النَّاُس النُّورَ النَّبَوِيَّ شُهوداً لا يُساوِرُهُ شَكٌّ، لأَنَّ الْمَشْهودَ لهم صادِقُونَ في حُبِّهِمْ واتِّباعِهِمْ حتى غَدَوْا مع ذاتِهِ الشَّريفَةِ كأنَّهمْ رأْيَ عَيْنٍ، فكانتْ صِلَةُ العطاءِ منه إليهم لا انْفِصام لها، مِنْ أَجْلِ ذلكَ عَشِقَهُ الجميعُ عِشْقَ مَنْ أَيْقَنَ أنَّهُ لا يُغْنِيهِ ويُثْمِرُهُ إلا رِضاهُ عن مُحِبِّهِ عَبْرَ شهادَتِهِ المقبولة له، ولا عَجَبَ، فَإنَّ أَثيرَ الشوقِ منه وإليه باقٍ أَثَرُهُ وسَرَيانُهُ في كِيانِ الأُمَّةِ إلى قيامِ الساعَةِ بأَثَرِهِ الشريفِ الْمُمْتَدِّ في نظامِ قولِهِ الشائقِ كما في الصحيح : «وَدِدْتُ أني لَقِيتُ إخواني الذينَ آمَنُوا بي ولم يَرَوْني»، وقولُهُ ﷺ أيضاً : «مَِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لي حُبَّاً ناسٌ يكونون بَعدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لورآني بأَهلِهِ ومالِهِ» فهو الذي كَشَفَ عن واقعِ تلكَ الصِّلَةِ النَّاهِضَةِ. لذا كانَ مِنْ عظيمِ تَعَلُّقِهِمْ بهﷺ أنْ يُتَرْجِمُوهُ بالاجتماعِ على الله تعالى في ذكرى ولادَتِهِ الشريفةِ، وعلى ما يُثْلِجُ صَدْرَهُ الشريفَ ويُفْرِحُ قَلْبَهُ الكبيرَ من أعمال البر، ما يُديمُ بِشارَتَهُ لأُمته.
أجل! ففي المولدِ اجتماعٌ على ذكر اللهِ تعالى وسيرةِ رسولِهِ ﷺ. وهنا وقبل العرض؛ سؤالٌ: تُرى هل ما يَفْعَلُهُ المسلمونَ اليومَ في المولِدِ ضَرْبٌٌ مِنَ الابتداعِ ينبغي التحذير منه، أو أنه إحداثٌ لعبادةٍ غيرِ مشروعةٍ ينبغي البعد عنها؟ أم ماذا؟
أقول لِلْمُتَسَرِّعِ: إنَّ الجوابَ كامِنٌ فيما أَثْبَتَهُ المحققونَ مِنْ سَلَفِ هذه الأُمَّةِ وخَلَفِها وأَتباعِهِمْ مِنْ عُلَمائنا الْمُعاصِرين، فلقد قالوا نَفَعَ اللهُ بهم: إنَّ الاحتفالَ بالمولِدِ ليس فيه إِحداثُ عبادةٍ جديدةٍ، وإنَّما هو القيامُ بعباداتٍ مَشْروعَةٍ، قد شَرَعَها اللهُ تعالى؛ مِنْ كلامِ اللهِ وذكرِهِ والصلاةِ والسلامِ على أَشْرَفِ خَلْقِهِ ﷺ ومَدْحِهِ، ومُدارَسَةِ سيرتِهِ العَطِرَة، واستعراضِ شمائِلِهِ الزَّاكِيَةِ الشريفةِ، والدُّعاء مع الرَّجاءِ بالقَبولِ، ثم إطعامِ الطعامِ، ونَحْوِ ذلك مِنَ الخيرِ النَّافِعِ، وثوابِتِ العباداتِ الْمَشْفُوعَةِ بالكثيرِ مِنَ الأَدِلَّةِ الصحيحةِ الْمُرَغِّبَةِ بالقِيامِ بها والحَثِّ عليها.
فالْمَولدِ عبارةٌ عنْ مجموعَةٍ مِنْ الأعمالِ النافِعَةِ، وصورةٌ مِنْ صُوَرِها، بل هو مِنْ أَجَلِّ أعمالِ الخيرِ لِما فيه مِنْ تكامُلِ الباقَةِ الْمَشْروعَةِ مجموعةً في وقتٍ واحدٍ وعلى قَصْدٍ واحِدٍ ، بل وعلى أَتْقَى قلب رجلٍ واحدٍ هديةِ اللهِ تعالى للأُمَمِ جمعاء بظاهِرَةِ الإجلالِ والتعظيمِ لِمَنْ عَظَّمَهُ مولاهُ وقال في حَقِّه قُرآناً يُتَعَبَّدُ به إلى قيامِ الساعة : (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم)
ثم إنَّ أعمالَ الخيرِ كلَّها مَفتوحَةٌ بِنَصِّ البيانِ الإلهي القائل : (وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
هذا؛ ومِنْ لطائفِ القولِ فيما نحن بِصَدَدِهِ أنَّ ضابِطَ الخيرِ قاعدةٌ مُطْلَقَةٌ يَنْطَوِي فيها وتحتَ ظِلِّها كُلُّ بِرٍّ مِنْ صالحِ الأَعمالِ، وكلُّ ما يَنْهَضُ بالهِمَّةِ ويَزيدُ في الإيمانِ ويدعو الْمُحِبِّينَ جميعاً إلى عَلَّامِ الغُيوبِ ما يَدْفَعُهم إلى مشروعٍ مَنْهَجِيٍّ سامٍ ألا وهو بناء المجتمع السليم؛ منطلقاته: قواعِدُ الدِّينِ الْمَكِينَةُ وتعاليمُه السَّليمةُ ما يُسْتَجْلَى بها عَظَمَةُ شريعةِ الإسلامِ تلك التي وجَّهَتْ إلى البُعْدِ عن الإفْراطِ أو التفريط، وعن الغُلُوِّ أو القُلُوِّ ، وأنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ صالِحَةٌ لِكُلِّ زمانٍ ومكان.
تَدَبَّرْ معي الآن أخي القارِئ هذا الشاهدَ الكاشِفَ عن تلك الحقائقِ لِتُدْرِكَ أنَّ ما عليه المسلمون اليومَ مِنْ روائعِ الدِّلالاتِ على أنَّ مَجالِسَ الخيراتِ مِنَ الْمُسَلَّمات.
ففي البُخاريِّ أنَّ الفاروقَ رضي الله تعالى عنه لَمَّا طَلَبَ مِنَ الصِّديقِ رضي اللهُ تعالى عنهما أنْ يَجْمَعَ القرآنَ الكريمَ؛ قال له الصدِّيق: كيف أَفْعلُ شيئاً لم يَفْعَلْهُ رسولُ اللهِ ﷺ؟
فقال عمرُ : إنَّه لَخَيرٌ، فَوافَقَ الصدِّيقُ، ثم طَلَبا مِنْ زيدِ بنِ ثابِتٍ رضي اللهُ تعالى عنه أنْ يَجْمَعَهُ، فقال : كيف تَفْعَلانِ شيئاً لم يَفْعَلْهُ رسولُ اللهِ ﷺ؟ ؟
فقالا: هو خيرٌ، فَوافَقَ زيدٌ، واتَّفَقَ على ذلك الصحابةُ. أي : فَغَدا إِجماعاً.
ففيه: دِلالَةٌ واضحةٌ على أنَّ صُوَرَ الخيرِ لا يُمْنَعُ منها ما دامَتْ داخِلَةً في قواعدِ الدِّين.
ولذلك فقد أَظْهَرَ الصحابةُ رضي اللهُ تعالى عنهم، ومَنْ بَعدَهُمْ صُوراً كثيرةً مِنْ أفعالِ الخيرِ، ولم يَعُدُّوها بِدْعَةً مَمْنُوعَةً ، أو مكروهة. مِنْ ذلك الخيرِ صُوَرُ الاحتفالِ في المولدِ التي تضمنت ما ذكر مما شرعه الله تعالى ولم يحرمه.
هذا؛ ويَزيدُ الأمرَ وضوحاً أَنَّه لَمَّا حَدَثَتْ تلك الصورةُ رضِيَها العلماءُ مِنَ الْمُفَسِّرينَ، والفقهاءِ، والْمُحَدِّثينَ، وكانوا يَحْضُرونَها، ولم يَمْنَعْْ منها أَحَدٌ جِيلاً بعدَ جيلٍ حتى أَخَذَتْ معنى الإجماعِ، ذلك أنَّ العلماءَ لا يَسْكُتُونَ على باطِلٍ.
في الختام أقول: إنَّ مجموعَ أعمال المولد التي يَجْتَمِعُ عليها الْمُحِبُّونَ مِنْ أُمَّةِ الحبيبِ الأكرم ﷺ إنَّما هي ركائزُ تَذْكيرٍ تُبْنَى عليها مَسالِكُ الهدايةِ النَّاهِضَةِ بِهِمَّةِ العامِّ والخاص، فَتُوقِظُ الغافِلَ، وتَرْشُدُ الحائِرَ، وتُعَلِّمُ الجاهلَ، وتُسَدِّدُ الحائرَ لا سِيَّما لَحَظاتِ الإصْغاءِ إلى ما يَتَجانَسُ مع الرُّوحِ التي لا تأْلَفُ إلا عَلياءَ الأُمورِ التي كَمَنَتْ في بيانِ اللهِ تعالى وهَدْيِ المصطفى ﷺ في دوحات النَّثْرِ والشِّعرِ، والدُّروسِ، وكذا مَعْروضِ عِبَرِ الأوَّلين الذينَ أَعَزَّهُمُ اللهُ تعالى بالإسلامِ ضِياءً راشداً فَبَدَّدَ الظلمات.
وأَلْطَفُ مايُسْتَجْلَى مِنْ أعمالِ المولدِ هو اسْتِشْعارُ آثارِ الحُبِّ النَّبَوِيِّ على الإيجابِ لدى الحاضِرينَ مِنْ سابِقٍ ولاحِقٍ ومُقَصِّرٍ؛ كلٌّ يَسْتَدْرِكُ على نفسِهِ لنفسِه تجارةً مع الله تعالى بِمَطْمَعِ التَّقَلُّبِ الدائمِ في رياضِ العملِ الْمَرْضِيِّ في الحالِ والمآل.
نَعَمْ! واللهِ قد أثارَ ذلك التغييرُ مِنَ الجُمودِ إلى الإِلْفِ ، ومِنَ القَسْوَةِ إلى اللِّينِ والرحمةِ، ومِنَ الاسْتِكْبارِ إلى التواضُعِ، ومِنَ الغَيْبَةِ إلى الحضور أثار نظر ذوي اللب والرشاد فأدركوا وسعة طيف بيان الله تعالى: (وَٱفعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فاللهم! اجْعلْنا مِمَّنْ يَعرِفُونَ قَدْرَ النَّبيِّ ﷺ، وأَعِذْنا مِنْ وعيدِ بيانِكَ الجليل (أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) آمين آمين يارب العالمين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلاةً وسلاماً على خير خلق الله سيد السادات صلاةً تنفحنا بالخيرات والبركات والمسرات بدوام التجليات من رب الأرض والسموات آمين آمين يارب العالمين
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَٰم وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ)